سورة الأنفال - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}
يقول تعالى: إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم، {وَإِنْ جَنَحُوا} أي: مالوا {لِلسَّلْمِ} أي: المسالمة والمصالحة والمهادنة، {فَاجْنَحْ لَهَا} أي: فمل إليها، واقبل منهم ذلك؛ ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين؛ أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا فضيل بن سليمان- يعني: النميري- حدثنا محمد بن أبي يحيى، عن إياس بن عمرو الأسلمي، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه سيكون بعدى اختلاف- أو: أمر- فإن استطعت أن يكون السلم، فافعل».
وقال مجاهد: نزلت في بني قريظة.
وهذا فيه نظر؛ لأن السياق كله في وقعة بدر، وذكرها مكتنف لهذا كله.
وقول ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة، والحسن، وقتادة: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية [التوبة: 29] فيه نظر أيضًا؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفًا، فإنه تجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص، والله أعلم.
وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: صالحهم وتوكل على الله، فإن الله كافيك وناصرك، ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا، {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} أي: كافيك وحده.
ثم ذكر نعمته عليه بما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار؛ فقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: جمعها على الإيمان بك، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، بين الأوس والخزرج، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي» كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أَمَنَّ.
ولهذا قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: عزيز الجناب، فلا يخيب رجاء من توكل عليه، حكيم في أفعاله وأحكامه.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسن القنديلي الإستراباذي، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار، حدثنا ميمون بن الحكم، حدثنا بكر بن الشرود، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قرابة الرحم تقطع، ومنة النعمة تكفر، ولم ير مثل تقارب القلوب؛ يقول الله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} وذلك موجود في الشعر: إذا مَتَّ ذو القربى إليك برحمهفَغَشَّك واستَغْنى فليس بذي رحم.
ولكن ذا القربى الذي إن دعوتهأجاب ومن يرمي العدو الذي ترمي قال: ومن ذلك قول القائل:
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم *** وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تُقَرّب قاطعا *** وإذا المودة أَقْرَبُ الأسْبَاب
قال البيهقي: لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس، أو هو من قول من دونه من الرواة؟
وقال أبو إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، سمعته يقول: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} الآية، قال: هم المتحابون في الله، وفي رواية: نزلت في المتحابين في الله.
رواه النسائي والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح.
وقال عبد الرازق: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء، ثم قرأ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}
رواه الحاكم أيضًا.
وقال أبو عمرو الأوزاعي: حدثني عبدة بن أبي لُبَابة، عن مجاهد- ولقيته فأخذ بيدي فقال: إذا تراءى المتحابان في الله، فأخذ أحدهما بيد صاحبه، وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر. قال عبدة: فقلت له: إن هذا ليسير! فقال: لا تقل ذلك؛ فإن الله تعالى يقول: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}!. قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن يمان عن إبراهيم الخوزي عن الوليد بن أبي مغيث، عن مجاهد قال: إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما، قال: قلت لمجاهد: بمصافحة يغفر لهما؟ فقال مجاهد: أما سمعته يقول: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}؟ فقال الوليد لمجاهد: أنت أعلم مني.
وكذا روى طلحة بن مُصَرِّف، عن مجاهد.
وقال ابن عون، عن عمير بن إسحاق قال: كنا نحدث أن أول ما يرفع من الناس- أو قال: عن الناس- الألفة.
وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، رحمه الله: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا سالم بن غيلان، سمعت جعدا أبا عثمان، حدثني أبو عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم، فأخذ بيده، تحاتت عنهما ذنوبهما، كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحار».


{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}
يحرض تعالى نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، والمؤمنين على القتال ومناجزة الأعداء ومبارزة الأقران، ويخبرهم أنه حسبهم، أي: كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم، وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم، ولو قل عدد المؤمنين.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم، حدثنا عبيد الله بن موسى، أنبأنا سفيان، عن شوذب عن الشعبي في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: حسبك الله، وحسب من شهد معك.
قال: وروي عن عطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم مثله.
ولهذا قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} أي: حثهم وذمر عليه، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض على القتال عند صفهم ومواجهة العدو، كما قال لأصحابه يوم بدر، حين أقبل المشركون في عَدَدهم وعُدَدهم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض». فقال عمير بن الحُمام: عرضها السموات والأرض؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» فقال: بخ بخ، فقال: «ما يحملك على قولك بخ بخ؟» قال رجاء أن أكون من أهلها! قال: «فإنك من أهلها» فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم ألقى بقيتهن من يده، وقال: لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة! ثم تقدم فقاتل حتى قتل، رضي الله عنه وقد روي عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير: أن هذه الآية نزلت حين أسلم عمر بن الخطاب، وكمل به الأربعون.
وفي هذا نظر؛ لأن هذه الآية مدنية، وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة، والله أعلم.
ثم قال تعالى مُبَشِّرًا للمؤمنين وآمرا: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} كل واحد بعشرة ثم نسخ هذا الأمر وبقيت البشارة.
قال عبد الله بن المبارك: حدثنا جرير بن حازم، حدثني الزبير بن الخِرِّيت عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم جاء التخفيف، فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} إلى قوله: {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قال: خفف الله عنهم من العدة، ونقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
وروى البخاري من حديث ابن المبارك، نحوه.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس في هذه الآية قال: كتب عليهم ألا يفر عشرون من مائتين، ثم خفف الله عنهم، فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين.
وروى البخاري، عن علي بن عبد الله، عن سفيان، به ونحوه.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفًا، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} الآية، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدو لهم لم ينبغ لهم أن يفروا من عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك، لم يجب عليهم قتالهم، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم.
وروى علي بن أبي طلحة والعوفي، عن ابن عباس، نحو ذلك. قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، والضحاك نحو ذلك.
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه، من حديث المسيب بن شريك، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، رضي الله عنهما: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قال: نزلت فينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وروى الحاكم في مستدركه، من حديث أبي عمرو بن العلاء، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} رفع، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.


{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)}
قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن حميد، عن أنس، رضي الله عنه، قال: استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم» فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس». فقام عمر فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء. قال: وأنزل الله، عز وجل: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية.
وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك.
وقال الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟» قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستتبهم، لعل الله أن يتوب عليهم. قال: وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك، وكذبوك، فقدمهم فاضرب أعناقهم. قال: وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب، فأضرم الوادي عليهم نارًا، ثم ألقهم فيه. قال: فقال العباس: قطعت رحمك قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئًا، ثم قام فدخل فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر.
وقال ناس: يأخذ بقول عمر.
وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، عليه السلام، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌرَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى، عليه السلام، قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، وإن مثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام، قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 88]، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام، قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق». قال ابن مسعود: قلت: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء، فإنه يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا سهيل بن بيضاء» فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى آخر الآية.
رواه الإمام أحمد والترمذي، من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه، عن عبد الله بن عمر، وأبي هريرة، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري.
وروى ابن مردويه أيضا- واللفظ له- والحاكم في مستدركه، من حديث عبيد الله بن موسى: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: لما أسر الأسارى يوم بدر، أسر العباس فيمن أسر، أسره رجل من الأنصار، قال: وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه. فبلغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه» فقال له عمر: فآتهم؟ قال: «نعم» فأتى عمر الأنصار فقال لهم: أرسلوا العباس فقالوا: لا والله لا نرسله. فقال لهم عمر: فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى؟ قالوا: فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى فخذه. فأخذه عمر فلما صار في يده قال له: يا عباس، أسلم، فوالله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك، قال: فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال أبو بكر: عشيرتك. فأرسلهم، فاستشار عمر، فقال: اقتلهم، ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ} الآية.
قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال سفيان الثوري، عن هشام- هو ابن حسان- عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي، رضي الله عنه، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: خَيِّر أصحابك في الأسارى: إن شاءوا الفداء، وإن شاؤوا القتل على أن يقتل منهم مقبلا مثلهم. قالوا: الفداء ويقتل منا.
رواه الترمذي، والنسائي، وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري، به وهذا حديث غريب جدا.
وقال ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبيدة، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى يوم بدر: «إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء، واستشهد منكم بعدتهم». قال: فكان آخر السبعين ثابت بن قيس، قتل يوم اليمامة، رضي الله عنه.
ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا فالله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} فقرأ حتى بلغ: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال: غنائم بدر، قبل أن يحلها لهم، يقول: لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم.
وكذا روى ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
وقال الأعمش: سبق منه ألا يعذب أحدا شهد بدرا.
وروى نحوه عن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن جبير، وعطاء.
وقال شعبة، عن أبي هاشم عن مجاهد: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} أي: لهم بالمغفرة ونحوه عن سفيان الثوري، رحمه الله.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} يعني: في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الأسارى {عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} الآية.
وكذا روى العوفي، عن ابن عباس. وروي مثله عن أبي هريرة، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة والأعمش أيضا: أن المراد {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} لهذه الأمة بإحلال الغنائم وهو اختيار ابن جرير، رحمه الله.
ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا، لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة».
وقال الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا».
ولهذا قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوااللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فعند ذلك أخذوا من الأسارى الفداء.
وقد روى الإمام أبو داود في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا شعبة، عن أبي العنبس، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة.
وقد استقر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء: أن الإمام مخير فيهم: إن شاء قتل- كما فعل ببني قريظة- وإن شاء فادى بمال- كما فعل بأسرى بدر- أو بمن أسر من المسلمين- كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه من كتب الفقه.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13